الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وقال بعض العلماء: الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة، والدنيا أهون من ذلك.قال القاضي أبو محمد: وصحيح جائز أن يكون ذلك، وأن يزيد الله أيضاً المؤمن على شكره من نعم الدنيا وأن يزيده أيضاً منهما جميعاً، وفي هذه الآية ترجية وتخويف، ومما يقضي بأن الشكر متضمن الإيمان أنه عادله بالكفر، وقد يحتمل أن يكون الكفر كفر النعم لا كفر الجحد، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا: معنى الآية: {لئن شكرتم لأزيدنكم} من طاعتي وضعفه الطبري، وليس كما قال: بل هو قوي حسن، فتأمله.قال القاضي أبو محمد: وقوله: {لئن شكرتم} هو جواب قسم يتضمنه الكلام.وقوله: {وقال موسى} الآية، في هذه الآية تحقير للمخاطبين- بشرط كفرهم- وتوبيخ، وذلك بين من الصفتين اللتين وصف بهما نفسه تعالى في آخر الآية، وقوله: {لغني} يتضمن تحقيرهم وعظمته، إذ له الكمال التام على الإطلاق، وقوله: {حميد} يتضمن توبيخهم، وذلك أنه صفة يستوجب المحامد كلها، دائم كذلك في ذاته لم يزل ولا يزال، فكفركم أنتم بإله هذه حاله غاية التخلف والخذلان، وفي قوله أيضاً: {حميد} ما يتضمن أنه ذو آلاء عليكم أيها الكافرون به كان يستوجب بها حمدكم، فكفركم به مع ذلك أذهب في الضلال، وهذا توبيخ بين.وقوله: {ألم يأتكم} الآية، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة. وقوله: {لا يعلمهم إلا الله} من نحو قوله: {وقروناً بين ذلك كثيراً} [الفرقان: 38]، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب النسابون من فوق عدنان»، وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله».وحكى عنه المهدوي أنه قال: «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون».قال القاضي أبو محمد: وهذا الوقوف على عدتهم بعيد، ونفي العلم بها جملة أصح، وهو ظاهر القرآن.واختلف المفسرون في معنى قوله: {فردوا أيديهم في أفواههم} بحسب احتمال اللفظ.قال القاضي أبو محمد: والأيدي في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم، فمما ذكر على أن الأيدي الجوارح أن يكون المعنى: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضاً عليها من الغيظ على الرسل، ومبالغة في التكذيب- هذا قول ابن مسعود وابن زيد، وقال ابن عباس: عجبوا وفعلوا ذلك، والعض من الغيظ مشهور من البشر، وفي كتاب الله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119] وقال الشاعر: وقال الآخر: [الرجز] ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت، واستبشاعاً لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتاً لهم ودفعاً في صدر قولهم- قاله الحسن- وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم.قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الألفاظ معنى رابعاً وهو أن يتجوز في لفظ الأيدي، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب، فكأن المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم، وعبر عن جميع المدافعة ب الأيدي، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة.وحكى المهدوي قولاً ضعيفاً وهو أن المعنى: أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل.قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي لا وجه له.ومما ذكر على أن الأيدي أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم، أي بأقوالهم- فوصل الفعل ب {في} عوض وصوله بالباء- وروي نحوه عن مجاهد وقتادة.قال القاضي أبو محمد: والمشهور: جمع يد النعمة: أياد، ولا يجمع على أيد، إلا أن جمعه على أبد، لا يكسر باباً ولا ينقض أصلاً، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه.قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ- على هذا- معنى ثانياً، أن يكون المقصد: ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل، أي لم يقبلوه، كما تقول لمن لا يعجبك قوله: أمسك يا فلان كلامك في فمك. ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالاً ساغ هذا فيها، كما تقول: كسرت كلام فلان في فمه، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال: معناه: ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه.وقوله: {لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب.وقرأ طلحة بن مصرف: {مما تدعونّا} بنون واحدة مشددة.
قال القاضي أبو محمد: وتحمل {أو} في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر، فتخلصت بمعنى إلا أن، ولذلك نصب الفعل بعدها. وقالت فرقة هي بمعنى حتى في الآية، وهذا ضعيف، وإنما تترتب كذلك في قوله: لألزمنك أو تقضيني حقي، وفي قوله: لا يقوم زيد أو يقوم عمرو، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن.والعودة أبداً إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى: لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالاً، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.وخصص تعالى {الظالمين} من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذي قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.وقوله: {لنسكننكم} الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} [إبراهيم: 10] أي يؤخركم وأعقابكم.وقرأ أبو حيوة: {ليهلكن} و{ليسكننكم} بالياء فيهما.وقوله: {مقامي} يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته- إذا كان مصدراً- إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته- إذا كان ظرفاً- إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله: {مقامي} وجائز لو قال: مقامه، وجائز لو قال: مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول: دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.وقال أبو عبيدة: {مقامي} مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، والاستفتاح طلب الحكم، والفتاح: الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، ويل: بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش {عجل لنا قطنا} [ص: 16] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.وقرأت فرقة {واستفتِحوا} بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.و{خاب} معناه: خسر ولم ينجح، والجبار: المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، وقيل: معناه الذي يجبر الناس على ما يكرهون.قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن الجبار بأنه الذي يأبى أن يقول: لا إله إلا الله.والعنيد الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله: {من ورائه} ذكر الطبري وغيره من المفسرين: أن معناه: من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى {وكان وراءهم ملك} [الكهف: 79] وأنشد الطبري: قال القاضي أبو محمد: وليس الأمر كما ذكر، والوراء هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد، الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم.قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر وراء المتقدم، وكذلك قوله: {وكان وراءهم} [الكهف: 79] أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.وقوله: {ويسقى من ماء} وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء، ثم نعته بـ صديد كما تقول: هذا خاتم حديد، والصديد القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك.وقوله: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه.قال القاضي أبو محمد: وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.وقوله: {ويأتيه الموت من كل مكان}، أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل من جميع جهاته الست، وقوله: {وما هو بميت} أي لا يراح بالموت، وباقي الآية كأولها، ووصف العذاب بالغليظ مبالغة فيه، وقال الفضيل بن عياض: العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل: إن الضمير في {ورائه} هنا هو للعذاب المتقدم.
|